تتواتر الاشارات في سياق الحديث عن مستقبل اصلاح الترتيبات الانتخابية في مصر, الي النظام الانتخابي الألماني, المعروف هناك باسم نظام الفرد ـ القائمة المختلط, وواقع الأمر أن هذا النظام الذي تعود بدايته الي تأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية( ألمانيا الغربية سابقا), عقب الحرب العالمية الثانية في عام1949, الذي اعتمد بدون تعديلات جوهرية بعد توحيد الألمانيتين في عام1990, قد أضحي في السنوات الماضية بمثابة نموذج ناجح يحتذي به, بل ويطبق في بعض دول أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وافريقيا, في اطار نحو نظم انتخابية أكثر ديمقراطية وشفافية.
علي الرغم من هذا النجاح العالمي, فإن نقطة البدء الرئيسية في فهم النظام الانتخابي الألماني, هي تأكيد خصوصيته التاريخية والسياسية الواضحة, فقد مثلت خبرة الحقبة النازية في ثلاثينات واربعينات القرن الماضي, ومحاولة الاستفادة من دورسها المريرة الاطار الواقعي, الذي صاغ علي أرضيته المشروع الألماني الترتيبات السياسية, ومن بينها الانتخابية في فترة ما بعد الحرب, وكان ادولف هتلر قد تمكن عام1933 من الوصول الي الحكم عن طريق اقتراع حر في ظل نظام انتخابي تطور بعد نهاية الحرب العالمية الأولي, وقام علي اساس الربط المباشر بين عدد الاصوات التي يحصل عليها كل حزب وعدد المقاعد الممنوحة له في البرلمان( مقعد واحد لكل60000 صوت), وترتب علي ذلك من جهة تفتيت أصوات الناخبين علي العديد من الأحزاب التي وصل عددها في بداية الثلاثينات الي مايقارب الاربعين, ومن جهة أخري, استمرار وجود مجموعات حزبية صغيرة شديدة التطرف وعديمة الفائدة الفعلية علي الساحة الانتخابية, وكانت النتيجة الحتمية في الفترة بين1918 و1933( المعروفة في التاريخ الألماني باسم جمهورية فيمار) غياب الكتل البرلمانية القوية وصعوبة تشكيل ائتلافات حاكمة مستقرة, الأمر الذي مكن هتلر بعد فوزه في الانتخابات من القضاء بسهولة علي التعددية الحزبية, والعودة بألمانيا في ظل أزمة اقتصادية عالمية طاحنة( كساد الثلاثينات العظيم) الي مرحلة ما قبل الديمقراطية, لكل ذلك سعي المشرع في اعقاب النهاية المدمرة لحكم النازي الي وضع ترتيبات انتخابية تتفادي أخطاء المرحلة السابقة, وتستند الي مبدئي الاستقرار وتركيز القوة السياسية في عدد محدود من الاحزاب, التي تتداول السلطة فيما بينها بشكل ديمقراطي.
وتنص المادة الأولي من الفقرة الأولي في قانون الانتخاب الاتحادي لعام1949, علي ان البوندستاج وهو المجلس الفيدرالي للبرلمان الألماني( المكون منه ومن مجلس الولايات المسمي البوندسرات), يتشكل من598 عضوا,, يجري اختيارهم في انتخابات عامة وحرة من جانب كل من له حق التصويت من المواطنين الألمان, وهم جميع النساء والرجال البالغين الثامنة عشرة, وطبقا لنفس المادة, ينبغي أن تدار عملية الاقتراع علي نحو يجمع بين نظام الاختيار المباشر لمرشحين افراد في دوائر انتخابية محلية ونظام القائمة, وتأتي المادة الثانية من نفس الفقرة لتقرر مبدأ المناصفة بين النظامين, حيث يتعين انتخاب نصف اعضاء البرلمان299 بصورة فردية والنصف الآخر تبعا للقوائم الحزبية المسمي قائم الولايات الاتحادية.
يمتلك الناخب الألماني إذن صوتين, يذهب أولهما الي احد المرشحين في دائرته الانتخابية, وثانيهما الي واحدة من القوائم الحزبية في الولاية الواقعة بها الدائرة المعنية, ويقرر قانون الانتخاب الاتحادي فيما يتعلق بكيفية تحديد عدد مقاعد البوندستاج الخاصة بكل ولاية, وطريقة توزيعها علي حائزي الأغلبية في التصويت الفردي, والمنتخبين عن طريق القائمة, مجموعة من القواعد المهمة( تقع تحديدا في الفقرات الخامسة والسادسة من القانون), التي ينبغي النظر اليها بإمعان, فمن جهة أولي يتفاوت عدد الدوائر الانتخابية وبالتبعية اجمالي المقاعد المخصصة في البوندستاج من ولاية الي اخري طبقا لعدد سكانها, ففي حين تتمتع ولاية نوردراين فيستفالن في الغرب بأكبر عدد من المقاعد علي سبيل المثال, ترسل كل من ولاية سارلاند في اقصي الجنوب, وولاية مكلينبورج فوربومرن, وولاية ساكسن انهالت, في الشرق أقل عدد من الاعضاء الي برلين, ويرد علي هذه القاعدة استثناء مهم يرتبط بالمكانة التاريخية والسياسة لثلاث مدن هي برلين وهامبورج وبريمن, التي تعامل معاملة الولايات الوسيطة علي الرغم من ضآلة عدد سكانها.
من جهة ثانية, توزع مقاعد الولاية الواحدة علي نحو يضمن وجود جميع المرشحين المنتخبين بصورة فردية مباشرة في البوندستاج, ويخصص المتبقي للقوائم الحزبية المختلفة, وذلك من خلال العملية الحسابية التالية: عدد المقاعد المتبقية مضروبا في عدد الاصوات التي حصلت عليها القائمة المعنية ثم مقسوما علي اجمالي الاصوات الانتخابية الفعلية في الولاية كلها, اي اصوات من ذهب بالفعل الي صناديق الاقتراع وجا تصويته من الناحية الشكلية صحيحا, وتبعا لعدد المقاعد التي تحصل عليها كل قائمة( ولتكن خمسا علي سبيل المثال) ووفقا لهيراركيتها الداخلية المتروكة للنظام الاداري لكل حزب, يتحدد علي اساس مبدأ أولوية المراكز الاسبق من سيذهب الي البوندستاج( المرشحون الخمس الاوائل في مثالنا التوضيحي), وعادة ما تعمد الأحزاب الالمانية لوضع شخصياتها العامة, خاصة ان كانت من النوع الخلافي في مراكز القائمة الأولي, ضمانا لانتخابها وخوفا من امكانية عدم نجاحها في الانتخابات المباشرة في الدوائر.
ويرتبط بعملية التوزيع والتخصيص هذه العنصران الأهم, المميزان للنظام الانتخابي الألماني وهما حد الخمسة بالمائة, وقاعدة المقاعد الفردية الثلاثة.. فيشترط لمراعاة قوائم الاحزاب المختلفة عند توزيع مقاعد الولايات, اما حصول الحزب المعني علي الاقل علي نسبة خمسة بالمائة من اجمالي أصوات الناخبين الألمان, أو فوز مرشحيه بثلاث مقاعد فردية مباشرة في الدوائر الانتخابية في عموم البلاد, ويرد علي هذا التحديد استثناء وحيد ينص عليه قانون الانتخاب الألماني وأدرج لأهميته في الدستور الألماني لعام1949( القانون الأساسي) يتعلق بوضعية القوائم الحزبية الممثلة للأقليات القومية وهي في ألمانيا الاقلية السوربية( مواطنون ألمان من اصول أوروبية شرقية وبلقانية يقطنون الولايات الشرقية) والاقلية الدانمركية( مواطنون ألمان من اصول اسكندنافية في اقصي شمال ألمانيا), والهدف الواضح هنا هو ضمان حد أدني من التمثيل السياسي لهذه المجموعات العرقية الصغيرة.
وواقع الأمر, فإن شرط الخمسة بالمائة ينطوي علي محاولة منع تجزئة مقاعد البوندستاج علي العديد من المجموعات البرلمانية الصغيرة, والحد بقدر الامكان من احتمال عدم وجود اغلبية واضحة لواحد من الاحزاب الكبيرة, وهي منذ1949 إما الحزب المسيحي الديمقراطي أو الحزب الاشتراكي الديمقراطي أو الائتلاف بينها وبين الحزبين الاصغر وهما تقليديا الحزب الديمقراطي الحر( يعرف ايضا باسم الليبرالي) وحزب الخضر, يتمكن من تشكيل حكومة قوية نسبيا لا تنهار بمجرد انشقاق أحد نوابها, ويمتد تأثير هذا المبدأ الي السلوك الانتخابي ذاته, حيث يدرك الناخب الألماني عدم جدوي اعطاء الصوت الثاني اي صوت القائمة, لحزب صغير لن يتمكن علي المستوي الاتحادي من الصمود, وتظهر خبرة الحياة النيابية في المانيا في العقود الماضية مدي فاعلية مثل هذا الادراك في تحجيم الدور السياسي للأحزاب الصغيرة, سواء كانت راديكالية الطابع مثل القوي النازية الجديدة, أو ذات برنامج غير واضح مثل بعض الأحزاب اليسارية, الأمر الذي يعمق ولاشك من مساحة الاستقرار السياسي, ويضفي كفاءة واضحة علي عمل الحكومة المنتخبة وسياسات الاحزاب الأخري.
وعلي صعيد آخر, تمثل قاعدة المقاعد الفردية الثلاث استجابة لمتطلبات البنا الفيدرالي لألمانيا, القاضية بمراعاة الخصوصية الاقليمية وتقدير سياسي لاختيارات الناخبين علي المستوي المحلي الخاضعة بدرجة كبيرة لمنطق العلاقة الشخصية بين المرشح والناخب, بعيدا عن الاجندة الحزبية, فالحزب الذي يتمكن مرشحوه من الفوز عن طريق الصوت الاول ـ صوت المرشح الفرد ـ بثلاث دوائر انتخابية يتمتع بالتأكيد حتي وإن كان علي المستوي الاتحادي ضئيل الأهمية بمساحة قبول واسعة نسبيا لدي الناخبين في مناطق معينة,, الأمر الذي يبرر أخذه في الاعتبار عند توزيع مقاعد البوندستاج علي الولايات, وقد مكنت هذه الخاصية علي سبيل المثال الحزب الديمقراطي الحر المعتنق لأفكار الليبرالية الاقتصادية والمذهب الفردي, من الاستمرار علي الساحة السياسية وفي بعض الائتلافات الحاكمة في أكثر من لحظة تاريخية, ولم يكن هذا في معظم الاحوال بسواعد أنصار الحزب فقط, بل وصل الأمر في بعض الدورات الانتخابية الي قيام ساسة احد الحزبين الكبيرين الراغب في الائتلاف مع الديمقراطي الحر, بتوجيه وحث ناخبيه علي اهداء الصوت الأول الي مرشحي الشريك الضعيف لانقاذه من خطر الاستبعاد,
فقد لفت المستشار السابق هيلموت كول في أثناء الحملة الانتخابية عام1994 أنظار مؤيدي حزبه المسيحي الديمقراطي, الي أهمية التبرع ببعض الأصوات الأولي للحزب الديمقراطي الحر, الذي كان يمر آنذاك بأزمة عاصفة حتي يتمكن الائتلاف المكون منهما من الاستمرار في الحكم, وقد كان له بالفعل ما أراد.
أما المثال الأهم لحزب عاش في السنوات العشر الماضية منتفعا من قاعدة المقاعد الفردية الثلاثة, فهو حزب الاشتراكية الديمقراطية, الذي خرج في سياق الوحدة الألمانية من عباءة الحزب الاشتراكي الحاكم في ألمانيا الشرقية السابقة, فقد نجح مرشحوه في الانتخابات الاتحادية أعوام1990 و1994 و1998 باستمرار في الحصول علي ثلاث دوائر علي الأقل, وضمنوا بذلك مراعاة حزبهم عند تخصيص مقاعد البوندستاج, واللافت للنظر هنا, هو حقيقة أن هذه الدوائر كانت دائما ما تقع في الولايات الشرقية التي يعبر بها الانتماء لحزب الاشتراكية الديمقراطية, ليس فقط تعبير عن الخصوصية التاريخية لتجربة الدولة المنهارة, بل ايضا تعبيرا عن سلوك انتخابي احتجاجي ازاء سوء الأوضاع المعيشية اجتماعية واقتصادية مقارنة بالمناطق الغربية الغنية, الجدير بالذكر أن الانتخابات الأخيرة في سبتمبر الماضي, قد جاءت بما لا تشتهي سفن الاشتراكيين الديمقراطيين, فلم يتمكن مرشحوهم من الفوز بالدوائر الثلاث اللازمة وانما باثنتين فقط, تقلص اليهما عدد مقاعد الحزب في المجلس الحالي, وهو الأمر الذي يري فيه بعض المحللين السياسيين دليلا ظاهرا علي نجاح الوحدة الألمانية في تخطي عقبة الخبرات المختلفة في الشرق والغرب, والتقريب بين الناخبين هنا وهناك فيما يتعلق بسلوكهم واختياراتهم السياسية.
ويمكن أن نخلص من هذا العرض, الي أن النظام الانتخابي الألماني بطابعه المختلط وبعنصريه الرئيسيين, شرط الخمسة بالمائة والمقاعد الثلاثة, إنما يسعي بالأساس الي ضمان استقرار النظام السياسي من خلال تركيز ممارسة السلطة في عدد محدود من الاحزاب القوية, القادرة فيما بينها علي الائتلاف وتبادل المراكز من مناصب الحكم الي مقاعد المعارضة, ويترتب علي ذلك في التحليل الأخير, الحد من فرص المجموعات الحزبية الصغيرة في الوجود علي الساحة السياسية علي نحو يهدد فاعلية النظام ككل, وفي نفس الوقت تهدف الترتيبات الانتخابية الي مراعاة واقعية لمقتضيات التعددية والخصوصية المحلية في دولة فيدرالية, وذلك باعتماد مبدأ الفرصة الأخيرة المتمثلة في قاعدة المقاعد الفردية الثلاثة, أما الأهم هنا, فهو حقيقة ارتباط الممارسة الجيدة لمثل هذا النظام بمجتمعات ديمقراطية راسخة تعرف مواطنوها بوضوح علي الأوزان الفعلية للأحزاب المختلفة, وبلغوا درجة من الوعي تسمح لهم بالتعامل مع محددات عملية اقتراع مزدوجة الطابع بصورة عقلانية تحقق التوازن المنشود بين الاستقرار والتعددية.